كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة، وذلك عند انتصاف النهار، فإنهم قد يتجرّدون عن الثياب لأجل القيلولة.
ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث، فقال: {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب، والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل، فقال: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} قرأ الجمهور: {ثلاثُ عورات} برفع ثلاث وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من ثلاث مرات.
قال ابن عطية: إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل: أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة؛ ويجوز أن يكون ثلاث عورات بدلًا من الأوقات المذكورة أي: من قبل صلاة الفجر إلخ؛ ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار فعل أي: أعني، ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هنّ ثلاث.
قال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود.
وقال الفراء: الرفع أحبّ إليّ، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى: هذه الخصال ثلاث عورات.
وقال الكسائي: إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء، والخبر ما بعدها.
قال والعورات الساعات التي تكون فيها العورة.
قال الزجاج: المعنى: ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع عورة، والعورة في الأصل: الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهمّ حفظه ويتعين ستره أي: هي ثلاث أوقات يختلّ فيها الستر.
وقرأ الأعمش: {عورات} بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم، فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واوًا أو ياء، ومنه:
أخو بيضات رايح متأوّب ** رفيق بمسح المنكبين سبوح

وقوله:
أبو بيضات رايح أو مغتدي ** عجلان ذا زاد وغير مزوّد

و{لكم} متعلق بمحذوف، هو صفة لثلاث عورات أي: كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي: ليس على المماليك، ولا على الصبيان جناح، أي: إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والإطلاع على العورات.
ومعنى {بعدهنّ}: بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كلّ اثنين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع فيها.
قال أبو البقاء: {بَعْدَهُنَّ} أي: بعد استئذانهم فيهنّ، ثم حذف حرف الجرّ والمجرور فبقي بعد استئذانهم، ثم حذف المصدر، وهو الاستئذان، والضمير المتصل به.
وردّ: بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل المعنى: ليس عليكم جناح، ولا عليهم، أي: العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة، وارتفاع {طَوافُونَ} على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم طوّافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان.
قال الفراء: هذا كقولك في الكلام هم خدمكم، وطوّافون عليكم، وأجاز أيضًا نصب طوّافين لأنه نكرة، والمضمر في {عَلَيْكُمْ} معرفة، ولا يجيز البصريون أن تكون حالًا من المضمرين اللذين في عليكم، وفي بعضكم لاختلاف العاملين.
ومعنى {طوّافون عليكم} أي: يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرّة: «إنما هي من الطوّافين عليكم أو الطوّافات» أي: هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن، ومعنى {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ}: بعضكم يطوف، أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها، أو مؤكدة لها.
والمعنى: أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي، والموالي على العبيد، ومنه قول الشاعر:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

وقرأ ابن أبي عبلة: {طوّافين} بالنصب على الحال كما تقدّم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله: {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز أي: مثل ذلك التبيين يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كثير العلم بالمعلومات، وكثير الحكمة في أفعاله.
{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مرّ حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، فقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} يعني: الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} والكاف نعت مصدر محذوف أي: استئذانًا كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] الآية.
والمعنى: أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء، ثم كرّر ما تقدّم للتأكيد، فقال: {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقرأ الحسن {الحلم} فحذف الضمة لثقلها.
قال عطاء: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارًا كانوا أو عبيدًا.
وقال الزهري: يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية، والمراد بالقواعد من النساء: العجائز اللاتي قعدن عن الحيض، والولد من الكبر، واحدتها قاعد بلا هاء ليدلّ حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل ليدلّ بحذف الهاء على أنه حمل حبل، ويقال: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها.
قال الزجاج: هن اللاتي قعدن عن التزويج، وهو معنى قوله: {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يطمعن فيه لكبرهنّ.
وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد، وفيها مستمتع.
ثم ذكر سبحانه حكم القواعد، فقال: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي: الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة، وإنما جاز لهنّ ذلك لانصراف الأنفس عنهنّ إذ لا رغبة للرجال فيهنّ، فأباح الله سبحانه لهنّ ما لم يبحه لغيرهنّ، ثم استثنى حالة من حالاتهنّ، فقال: {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} أي: غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31]، والمعنى: من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهنّ، ولا متعرّضات بالتزين لينظر إليهنّ الرجال.
والتبرّج: التكشف، والظهور للعيون، ومنه {بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] وبروج السماء، ومنه قولهم: سفينة بارجة أي: لا غطاء عليها {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أي: وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهنّ من وضعها.
وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس: {أن يضعن من ثيابهن} بزيادة من، وقرأ ابن مسعود: {وأن يعففن} بغير سين {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} كثير السماع والعلم، أو بليغهما.
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ قال بالأوّل جماعة من العلماء، وبالثاني جماعة.
قيل: إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمانهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها، وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم؛ فمعنى الآية: نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو.
قال النحاس: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية لما فيه من الصحابة، والتابعين من التوقيف.
وقيل: إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة الأصحاء حذارًا من استقذارهم إياهم، وخوفًا من تأذيهم بأفعالهم، فنزلت.
وقيل: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، وقيل: المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو أي: لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو.
وقيل: كان الرجل إذا أدخل أحدًا من هؤلاء الزمنى إلى بيته، فلم يجد فيه شيئًا يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته، فيتحرج الزمنى من ذلك، فنزلت.
ومعنى قوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}.
عليكم، وعلى من يماثلكم من المؤمنين {أَن تَأْكُلُواْ} أنتم، ومن معكم، وهذا ابتداء كلام أي: ولا عليكم أيها الناس.
والحاصل: أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم فيكون {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} متصلًا بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج وعدم المرض، فقوله: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} ابتداء كلام غير متصل بما قبله.
ومعنى {مِن بُيُوتِكُمْ}: البيوت التي فيها متاعهم، وأهلهم، فيدخل بيوت الأولاد، كذا قال المفسرون، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء، وبيوت الأمهات، ومن بعدهم.
قال النحاس: وعارض بعضهم هذا، فقال: هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفًا لهؤلاء.
ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث: «أنت ومالك لأبيك»، وحديث: «ولد الرجل من كسبه»، ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام، والعمات، بل بيوت الأخوال، والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم.
وقال آخرون: لا يشترط الإذن.
قيل: وهذا إذا كان الطعام مبذولًا، فإن كان محرزًا دونهم لم يجز لهم أكله.
ثم قال سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ} أي: البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء، والعبيد، والخزّان، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، وإعطائهم مفاتحه.
وقيل: المراد بها بيوت المماليك.
قرأ الجمهور {ملكتم} بفتح الميم، وتخفيف اللام.
وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم، وكسر اللام مع تشديدها.
وقرأ أيضًا {مفاتيحه} بياء بين التاء، والحاء.
وقرأ قتادة {مفاتحه} على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي: لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك، وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع، ومنه قول جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ** بأسهم أعداء وهنّ صديق

ومثله العدوّ والخليط والقطين والعشير، ثم قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ} من بيوتكم {جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} انتصاب {جميعًا} و{أشتاتًا} على الحال.
والأشتات جمع شتّ، والشتّ المصدر بمعنى: التفرّق، يقال: شتّ القوم أي: تفرقوا، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله أي: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين، أو متفرقين، وقد كان بعض العرب يتحرّج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلًا يؤاكله، فيأكل معه، وبعض العرب كان لا يأكل إلاّ مع ضيف، ومنه قول حاتم:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ** أكيلًا فإني لست آكله وحدي